ثرثرة فوق النيل 1971

Adrift on the Nile 1971

انيس (عماد حمدي) يتكلم مع نفسه وخلفه الصحافية سمارة (ماجدة خطيب) تراقبه, يتحدث انيس مع نفسه: (الحشيش ممنوع والخمرة مش ممنوعة… طب ليه؟ ده يسطل المخ ودي تلطش المخ…! ده حرام ودي حرام…! ده تضر بصحة ودي تضر بصحة…! الحشيش غالي والخمرة اغلى منه…اشمعنى القانون متحايز للخمرة …؟ القانون بيفوت للخمرة علشان ندفع عليها ضرائب…طيب خليه بيفوت لحشيش وندفع عليه ضرايب…)

• حوار وسيناريو :- ممدوح الليثى
• السيناريو مقتبس من رواية بنفس العنوان لـ :- نجيب محفوظ
• إخراج:- حسين كمال
• بطولة: أحمد رمزى (رجب القاضى), عماد حمدى (أنيس زكى), عادل أدهم (خالد عزوز), ماجدة الخطيب (سمارة), ميرفت أمين (سناء), صلاح نظمى (خالد)

120 دقيقة

بقلم  لاوين ميرخان Laween Merkhan

2010 / 11 / 3

           لفيلم  (ثرثرة فوق النيل) دلالات و رموز مجازية كعلاقة مشهد مقتل الفلاحة الحامل بيد المسطولين (رجب وخالد عزوز وانيس وفتيات…) بغير القصد, ومشهد عندما ترغب الصحفية ذات النية الصادقة سمارة (ماجدة الخطيب) ان تصحب أنيس (بطل الفيلم الذي يحاور مع نفسه بتسائلات بلا اجوبة حول اوضاع وطنه ومجتمعه) الى مكان الخراب المهجور في الابنية سببته النكسة 1967 فتتولد تخيالات عند أنيس : صوت الناس ولعب الاطفال في المراجيح الخالية, ويقول مع نفسه :الفلاحة ماتت واحنا السبب ولازم نسلم انفسنا, وقد استخدم المخرج منظور عين انيس من خلال السيارة ليرى الخراب الذي حل. وهنا المخرج تعمد في التعبير المجازي بقصد موت الفلاحة هي هزيمة مصر ام دنيا مع العدوان الاسرائيلي, والهدف من مناداة أنيس هي تنبيه لمجتمعه من المستقبل المظلم. لقد كان انيس (عماد حمدي) محتاجا لمن يصحيه من سباته, وبالصدفة جلب رجب (احمد رمزي) الى ممكلته على النهر فتاة صحافية شجاعة سمارة (ماجدة الخطيب) لتكون بمثابة عاملا محفزا لأنيس. فهدف هذا الفيلم هو يقظ المجتمع وتحذيرهم من عوامل الترفيه كمخدرات والخمور والتلفاز…الخ , في تطوير ذهنهم.

هذا الفيلم قابل لدراسة من كل نواحي الإخراج السينمائ : ابعاد منظوره ,  لقطات مؤثرة, تخطيطه, تسلسله الزمني والحدثي, حواراته, تعبيراته المجازية, شخصيات الفيلم وتوزيع ادوارهم في محلها, ودينياميكية السيناريو … في الحقيقة, يمكن ان يكون الفيلم (ثرثرة فوق النيل) مرجعا سينمائيا كاملا.

لا يكفي التكلم عن فيلم (ثرثرة فوق النيل) بتعليق نقدي واحد, ولا يمكن وصف عمله المتكامل بصفحات محدودة حيث انه فيلم من الافلام التي لا تشيخ مهما مرت عليها السنين . الفيلم في قمة الحداثة وقابل لدراسة من كل نواحي… ناحية التصوير والاضاءة, ناحية شخصيات الفيلم, ناحية توجيه الكاميرا السينمائية… صحيح ان المخرج العظيم حسين كمال قدم لنا اكثر من 20 فيلما من ضمنها افلام ماستربيس من وجهة نظر النقاد المصريين, مثل البوسطجي وابي فوق الشجرة ونحن لا نزرع الشوك, لكن ارى ان الفيلم ثرثرة فوق النيل افضل ما قدمه لنا المخرج العظيم حسين كمال. اقصد هنا بكلمة “افضل” بحداثة فكرية وكسر قيود الكلاسيكات.

يركز هذا الفيلم على المونولوج الخاص (الحوار الداخلي) بأنيس: ساخطا على المجتمع بتلك الحوارات او الاحاديث التي تدور داخل الانسان, التي تدل على التلميحات  تشبه ومضات البرق في ليلية عاصفة مظلمة جداً . لا يبرز فيها غير لمعة البرق , هنا حوارات انيسة ومونولوجة اشبه بلمعات البرق , يجلد بها نفسه والمجتمع.

حسب نظرية العالم النفساني السويسري الشهير أريك فروم: ان الإنسان يلجىء إلى المخدرات حتى يشعر بشيء اشبه بإنعدام الوزن والخروج من العالم الذي يصعب عليه فهمه , نفس الشعور يخامر المدمن هو الشعور الجنسي والنشوة الجنيسة , كل ما يريده المدمن هو : التوحد والتكثف والتمحور حول نفسه, والجنس يعطي نفس الشعور بأنك لست وحدك. في لقطة رائعة تمزج كل العوامل التي تدفعك الى التكثف والتمحور حول ذاتك , عادل ادم و نعمت مختار , يتعاطى الحشيش ويغازل الغانيات ويذوب في تلاطف جنسي صارخ, كأن ابطال الفيلم يتعاطون الترياق قوي جداً يشمل عدة مواد:الحشيش والجنس . من اجل هدف منشود واحد , الارتقاء والخروج من الواقع والاندماج في واقع مخلوق من طرف المساطيل حسب ما يلبقون انفسهم في الفيلم.

بوستر فيلم (ثرثرة فوق النيل 1971)

بنية تخطيط لفيلم (ثرثرة فوق النيل) متماسكة جدا من ناحية تسلسل المشاهد والاحداث… في كل مشهد يحين موعد ظهوره بميعاد دقيق في الفيلم. السيناريو الذي كتبه المبدع ممدوح الليثي, بدون جدل فهو السيناريو ناضج وسلس, بالاضافة الى التشويق والاستمتاع من خلال الحوارات بين شخصيات الفيلم.

بطل الفيلم هو رجب (احمد رمزي), الذي جعل من اليخت مملكة له ويقوم ببحث عن نخبة من اصدقائه لم يراهم منذ مدة طويلة لأرجاع الشمل والسهر سويا بأحلى الامسيات في اليخت, يأكلون احسن الطعام ويشربون افضل الخمور ويدخنون الحشيشة من خلال الجوزة (الاركيلة). رجب هو زير النساء كما شاهدناه, في كل مرة يتعرف على امرأة, بعد ان يضجر منها يدعوها لمملكة على حسب تعبيره ويعطيها لأحد رفاقه… يقع مزاج رجب دائما على فتاة ثقيلة وجدية في عملها, محاولا بكل الطرق كسب عطفها, بدا ذلك واضحا عندما اراد الخروج مع الصحفية الجادة تدعى سمارة (ماجدة الخطيب). اصدقاء رجب كلهم مثقفين من الدرجة الاولى, احدهم محامي, الاخر سياسي و واحد منهم ناقد سينمائي يعمل في الصحيفة… يقصد هنا الكاتب نجيب المحفوط الى جمع بخيرة الناس لنقد المجتمع بشكل سلمي ويقصد ان الثقافة لا تكفي زيادة الوعي الناس اذا كانت الحكومة فاسدة تسرق مال الشعب.

تعمقت بشخصية انيس المسطول (عماد حمدي) في نقدي السابق, وذكرت كيف كان يحاور مع نفسه عندما يخرج من دائرة حكومية, منتقدا مهزلة العقل البشري وعجز الحكومة في ادارة اعمالها. ليس شخصية انيس وحدها كافية لدراسة بل جميع شخوص الفيلم ( خصوصا شخوص مملكة رجب وفلاح الذي يحرس المملكة). التوازن في الادوار وتوزيعها على الممثلين من اصعب الامور يواجها المخرج, فليس من السهل استنباط مشاعر الممثلين اثناء تصوير الفيلم. أستطاع المخرج العظيم حسين كمال بتلاعب في شخصيات الفيلم بأحترافية واعطاهم لكل واحد منهم زاوية تتسع اذا ما سلطت الضوء عليها.

الفيلم كله يمثل التهكم على تفكير الناس, ويلقي النظرة على كذب وخيانة الازواج, الحياة الروتينية التي يعانيها الموظف في الدائرات الحكومية  وسياسات الاشتراكية الوهمية واخيرا سوء الحكومة في ادارة الاعمال… كل هذه متمثلة على شكل تساؤلات وحوارات داخلية لأنيس. ليس الهدف هو الهجوم على الواقع المرير, بل غاية الفيلم وصول الى خلل يعاني منه المجتمع لأصلاح ذلك الخلل او محاولة اصلاحه.

 احدى المشاهد لا تنسى عندما يطلب منه المدير ان يكتب تقريرا بخصوص جريدة الاهرام,( انيس معتاد ان يحشش من قرب النهر قبل ان يذهب لدوام… أي ان انيس يريد ان يصبح مسطولا لينسى الوحدة والحياة الروتينية في دائر الصحة), لم يملأ انيس قلمه بحبر كاف, كتب انيس التقرير كله لكن سطرين فقط ما تبقى من الحبر… هذا المشهد من اعظم مشاهد رأيتها في حياتي, معبرا برمزية عالية من خلال هذا المشهد.

يسلم انيس التقرير بهذا الشكل لمديره… !

احب ان أشير الى شخصية العملاق عادل ادهم في دوره الناقد السينمائي يدعى خالد عزوز, اهم ما يتميز به هذا الممثل العظيم , حاجبيه المقطبة نبرات صوته وخطابته اللبقة وهيبة في شخصيته. عادل ادهم اعطانا الحقيقة عن فضائح عالم السينما ونقد الافلام من خلال دوره الناقد خالد عزوز… في احدى حواراته الساخرة عن الافلام مع اصحابه في المملكة: ” البنت تحب الولد الجميل ويتفقوا على الزواج, وتجي ليلة الفرح, تكتشف هي انه اخوها في الرضاعة… وقبل ما يخلص الفيلم بدقيقتين اثنيتين, يظهر الرجل العجوز بلحية بيضاء ويؤتي بأنه ليس اخوها… ويتزوجو… وتوتا توتا…!“”

هذا هو الفيلم, هذه هي الحوارات, هذه هي الحبكة ,هذه هي الشخصيات في قمة الاداء, قلما نحصل في ايامنا هذه على كل هذه العناصر بهذا التدفق مرة واحدة, استعان الفيلم برموز ومفردات لتعبر عن شئ معين… اكيد انك تسألت: لمَ اتخذ رجب من اليخت مملكة له؟ لمَ يركز المخرج حسين كمال على الجسر بين الضفة واليخت (مملكة*)؟ لمَ جمع الفيلم بأشخاص مثقفين كل واحد منهم متخصص في مجاله الخاص؟ لمَ يتلون الفيلم في مشهد تغني عايدة الشاعر؟   الفيلم من المستحيل النظر إليه بمنظور واحد , ولكن عدة مناظير وعدة وجهات نظر , وكل هذا لن نصل الى قاع الحقيقة , الفيلم وحدة جمالية رائعة , وتحفة سينمائية تشبة سجادة كاشان مع تقدم الزمن تزداد جمالية سجادة الكاشان وتزداد جمالية الفيلم مع الوقت , الوقت هنا يدخل عامل في ترقية الفيلم وعامل مهم في اضفاء عامل جودة اخر للفيلم . لم نشاهد لحد الان فيلم يكاد يلامس هذا العالم الابداعي المدعو : ثرثرة فوق النيل.

ملاحظة * : التعليق النقدي الاول  هنا